لا تضيف هذه الوريقات جديداً إلى ما يعلمه القارئ عن الموضوع، غير أن هناك حاجة ماسة إلى التذكير بتاريخ علم السياسة في مصر واتجاهاته؛ ذلك أن أي فعل يهدف إلى الحفاظ على ما هو قائم أو تغييره، إنما يحتاج إلى إرادة تسانده، وتلك الإرادة يشحذها ويقوي من تصميمها وعيٌ متنامٍ، ويترسخ ذلك الوعي ويتنامى بتزايد الخبرات واتساع نطاقها، وتحتاج تلك الخبرات إلى ذاكرة تاريخية تسعها وتحافظ عليها وترتبها وتستخلص العبر منها. ومن هنا جاء الحض على التذكير "وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ" سورة الذاريات، الآية 55.
يتعلق موضوع علم السياسة بدراسة مشكلة السلطة بشكل محوري، وهو موضوغ على درجة عالية من الخطورة، ولعل تلك الخطورة هي ما يشكل جمال هذا الموضوع وإثارته أيضاً. إن مشكلة السلطة محفورة في الطبيعة البشرية ومغروسة بالكينونة الإنسانية. ولعل قصة خروج آدم من الجنة تجسد ذلك بأوضح صورة؛ ترى ما الذي كان ينقص آدم في الجنة التي فيها ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، بحيث ضحى بهذا كله من أجله بارتكابه الفعل المحرم؟ وتأتي الإجابة على ذلك بأنه "فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَىٰ" سورة طه الآية 120؛ أي السلطان النهائي والأبدية، وكلاهما يعالج صميم الوضع الإنساني، فالفاني دائماً ما يتوق إلى الأبدية، والضعيف يسعى أبداً إلى القوة، ومن هنا تجذرت مسألة السلطة في الكيان الإنساني، الأمر الذي يجعل منها مسألة حياة وموت. ففي لقاء يزعم أنه جرى بين ابن رشد وابن عربي، دار بلغة الإشارات حول مدى نجاح البرهان والعرفان في الوصول إلى الحقيقة، أنهى ابن عربي الحوار بعبارة؛ وبين نعم ولا، تطير الرقاب. إن المعرفة المتعلقة بالسياسة أو الحكمة السياسية بلغة القدماء لا تقل في خطورتها عن المعرفة التي دار حولها اللقاء المزعوم، وإن كانت الرقاب التي تطير في حالة الحكمة السياسية هي جماعات وشعوب وأمم. وهناك طرفة وردت في التراث، تبين فداحة ثمن المعرفة السياسية والخطورة الشديدة للجهل بها. فيحكى أن الأسد جمع الحيوانات كي يستشيرهم في أحد الأمور، فعارضه ذئبٌ وخالفه فيما ذهب إليه من رأي، فما كان من الأسد سوى أن أطارح برأسه. وعندها قام حيوانٌ آخر، فأشاد برأي الأسد وتبصره وعمق خبرته وحكمته، فأعجب الأسد بمقاله وسأله من أين تعلمت الحكمة، فأجاب؛ من رأس الذئب الطائر. وعلى ما في خطورة قضية السلطة التي تطيح برؤوس الأفراد والشعوب والأمم، فيعب بها كثيرون، وعلى رأس هؤلاء دارسو السلطة أنفسهم. ويذكر أفلاطون في كتاب القوانين أن هناك افتتاناً يقع فيه المهتمون بالكيانات السياسية الضخمة كالاتحادات بين المدن، التي تعبر عن علاقات سلطة عملاقة، لدرجة تعميهم عن اختلالاتها القيمية والبنيوية.
وحريٌّ بنا بنا بعد الإلماح إلى خطورة الموضوع أن نوجه الحديث إلى سبب الحديث عن الموضوع، أو بالأحرى دواعي الحديث عنه الآن، في هذه اللحظة الراهنة. إن هناك إحساساً عامًّا بقصور، إن لم يكن بفشل علم السياسة في مصر، رغم (أو ربما بسبب) هذا الكم من الإنتاج العلمي على مستوى الدراسات النظرية أو التطبيقية. وفي الواقع، ليست أزمة هذا العلم وليدة هذه اللحظة الحالية التي نكابدها أو الفترة الانتقالية أو أحداث الثورة ذاتها. بل نشأ الإحساس بوجود هذه الأزمة في تسعينيات القرن العشرين. فلم يستطع علم السياسة في مصر إفادة الواقع من خلال القيام بوظائف العلم في المجال السياسي وهي التحليل والتفسير والتنبؤ والتقويم. فمنذ تسعينيات القرن المنصرم، أعلن باحثون كبار وبارزون عجزهم عن معرفة جوهر الواقع السياسي وآليات التغيير فيه، ناهيك عن اتجاهات التغيير في المستقبل. لقد كان المستقبل الوحيد المطروح آنذاك، ولقرابة عقد من الزمان هو توريث السلطة من الأب إلى الابن، وجرى تصوير هذا السيناريو على أنه القدر المقدور. ورغم أن المستقبل كما شاهدنا كحاضر معاش زخر باحتمالات شتى، غير أن كبار الأساتذة لم يتخيلوا إمكانية تحققها، بل وصادر الكثيرون منهم على أي احتمال بخلاف استمرار الوضع القائم.
ولو عدنا إلى عام 2005، أكان من الممكن آنذاك تخيل سقوط حكم رئيس استمر لمدة ثلاثة عقود وركن إلى إمكانية نقل السلطة إلى ولده؟ أكان من الممكن أن تصل الجماعة المحظورة إلى سدة الحكم وأن يصبح الحزب الحاكم محظوراً؟ أكان من الممكن تصور فشل حكم أول رئيس مدني منتخب تدخل الجيش للإطاحة به وبنظامه ليوضع في قفص الاتهام مع الرئيس الأسبق ونجليه؟ بالطبع لم يكن من الممكن تصور كل هذا وذاك وقتذاك. ويقيناً لم يكن أي من أساتذة علم السياسة يزعم وقتها أنه يستطيع أن يرى تلك الاحتمالات بظهر الغيب. ومع ذلك العجز، استمر أساتذة العلوم السياسية كحالهم قبل الثورة، يلبعون أدواراً سياسية مختلفة، مباشرة وغير مباشرة، لكن تقديراتهم جميعها قد فشلت، وبل وسقطت رهاناتهم السياسية، ووجدناهم إما يتعلقون بأهداب سلطة مضى عهدها أو سلطة يبزغ نجمها أو يتبدلون ويتلونون مع كل عصر وسلطة. ولما كان كل هؤلاء يختلفون في خلفياتهم الثقافية والاجتماعية والسياسية والدينية، وكان القاسم المشترك فيما بينهم هو أنهم أهل تخصص واحد، فإنه من الممكن أن نزعم أن الأزمة التي يجسدونها أو يعبرون عنها إنما تتعلق بذلك التخصص أو ببنية علم السياسية أو بتقليد علم السياسة في مصر. ومن هنا لزم علينا أن نعود إلى الوراء قليلاً لإلقاء الضوء على تاريخ هذا الحقل المعرفي في الماضي القريب والبعيد.
في الماضي القريب، شهدت أخريات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ثلاث محاولات لتأسيس علم السياسة في مصر، وقد نبعت كل محاولة في لحظة تاريخية معينة حملت كل منها سمات مشتركة مع لحظتنا الراهنة.. ظهرت المحاولة الأولى على يد الشيخ محمد عبده في أواخر القرن التاسع عشر، حيث شهدت مصر اضطرابات سياسية واجتماعية فيما عرف بالثورة العرابية، أو هوجة عرابي كما عرفت في ذلك الوقت، وكان أن تعثر الحكم الديمقراطي الذي أفرزته الأحداث ثم سقط وسقطت مصر معه بالاحتلال العسكري الأجنبي. في تلك اللحظة، دعا محمد عبده عند تفسيره للآية 137 من سورة آل عمران "قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ" إلى تأسيس علم يسعى إلى فهم علاقات السلطة في المجتمع استناداً إلى مفهوم السنن المشار إليه في الآية الكريمة، وذلك بأي اسم يشاؤه المرء سواء كان علم السنن أو علم الاجتماع الديني أو علم السياسة المدنية.
أما المحاولة الثانية، فكانت على يد عبد الرحمن الكواكبي في بداية القرن العشرين الذي شهد تفاقم أزمة الدولة العثمانية واقترابها من النهاية، مع خنقها لأية محاولات نقدية راقية للإصلاح من خلال الاعتقال والاضطهاد. ولما كان الكوكبي يعتبر أن الاستبداد هو الداء العضال، فقد اقترح تأسيس علم للسياسة، يراكم على جهود رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي، ويركز على موضوع واحد وهو الاستبداد، ومن هنا أتى عنوان كتابه الشهير (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد). وكانت المحاولة الثالثة على يد المفكر الليبرالي الشهير أحمد لطفي السيد، في العقد الثاني من القرن العشرين. وكانت مصر، مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، مع وضعها تحت الحماية البريطانية (1914) قد انفصلت رسميّاً عن الدولة العثمانية للمرة الأولى، وشهدت أيام الحرب استباحة القوات الغازية لكافة مواردها ومرافقها من أجل دعم المجهود الحربي. وأخيراً تفجرت ثورة 1919، كثورة مجتمعية اشتركت فيها كافة طوائف الشعب المصري وريفه وحضره، أفرزت الثورة نظاماً سياسيّاً يمكن أن نطلق عليه ببعض التجاوز نظاماً ديمقراطيّاً برلمانيّاً. ولما كان لطفي السيد على علم بأن الممارسة السياسية في ظل النظام الجديد تستلزم وجود معرفة بالمفاهيم والتقاليد النظرية السياسية الغربية، التي اعتبر أن مصدرها الأساسي هو كتابات أرسطو، فقد قام بترجمة كتابيْه "الأخلاق" و"السياسة" من أجل ذلك.
قد تكون هناك محاولات أخرى، لا علم لي بها بشأن تأسيس علم للسياسة في مصر، ولكن تلك المحاولات المذكورة كانت أبرزها. ولعل السؤال الأهم لا يتعلق بعدد هذه المحاولات وإنما بمقدار تأثيرها. والحقيقة أن هذه المحاولات لم تثمر شيئاً؛ فعند تأسيس أقسام العلوم السياسية في مصر في أواخر الخمسينيات، تمت الاستعانة بكتاب في مقدمة العلوم السياسية لكاتب كندي، ومحتويات هذا الكتاب وتقسيم موضوعات العلم فيه، منبتة الصلة بالواقع الفكري- السياسي الذي أفرز تلك المحاولات المذكورة، بعبارة أخرى، لم يتم البناء على أية محاولة من هذه المحاولات أو توظيف الجهد الفكري المبذول فيها في الإنتاج المعرفي النظري أو العملي لعلم السياسة في الجامعات المصرية. وإنما جرى وضعها في مجال تاريخ الفكر السياسي المصري أو العربي، باعتبارها مجرد حالات دراسية تاريخية.
ولكن إذا جاز لنا الإفادة من هذه المحاولات في لحظتنا الراهنة، فيمكننا أن نستدل منها أن علم السياسة ليس جسداً مقدساً لا يمس؛ إنه ليس كذلك، الآن ولم يكن في يوم من الأيام كذلك. وبالتالي، ينبغي تعديله وإصلاحه بل حتى هدمه وإعادة بنائه (إذا تطلب الأمر) في كل مرحلة وفي كل حقبة بحسب متطلباتها من أجل أن يتمكن من القيام بوظائف العلم بالنسبة للقضية محل الدراسة وهي في حالة علم السياسة الوجود السياسي أو الاجتماعي للسياسي. ويضاف إلى ذلك، أنه في لحظتنا الراهنة، إذا كان هناك مسعىً حقيقياً لمراجعة حالة العلم، لم يعد من الممكن أن نتجاهل المحاولات أو أن نلقي بها جانباً. سواء من ناحية الأسئلة التي حفزتها أو من حيث الأجوبة التي قدمتها. إن شدة تعقد الوجود المجتمعي الحالي يستلزم تعبئة كافة الموارد الفكرية والجهود العلمية على اختلاف خلفياتها، إذ إننا لسنا في ترف إهدار هذه الثروات، فنتيجة ذلك تطاير الرقاب كما ذكرنا في البداية.
في حقيقة الأمر، لا يمكن القول إننا نبدأ من فراغ في دراسة قضية السلطة، فهناك تقاليد تاريخية لدراسة قضية السلطة في الحضارة الإسلامية التي تشكل الأفق التاريخي لنا، بعد انفصالنا لغويّاً وثقافيّاً ودينيّاً عن الطبقات الأخرى المكونة للتاريخ المصري؛ الفرعونية، والهلينستية والقبطية والرومانية. وإن كان لا يعني هذا برأينا إغلاق المجال البحثي عن تقاليد دراسة السلطة في تلك الأحقاب التاريخية والإفادة منه، لما في ذلك من إثراء للموارد الفكرية المتاحة أمامنا. وأول تقليد هو سياسة الفقهاء التي عرفت باسم السياسة الشرعية، وكانت تلك محاولة من قبل الفقهاء للاجتهاد فيما ليس فيه نص مما يتعلق بأمور الحكم واختصاصات الحاكم، ولكن في إطار مبادئ الشريعة. ويستند ذلك إلى فكرة المصالح الشرعية التي أصّل لها الإمام الشاطبي في كتابه الشهير (الموافقات في أصول الشريعة). أما التقليد الثاني فهو سياسة الكتّاب أو أرباب القلم أو ما عرف بأدب النصيحة، وفي الغرب، باسم مرايا الأمراء. وهو محاولة من قبل الكتّاب العاملين بخدمة الدولة بلورة فن إدارة شؤون الحكم استناداً إلى التقاليد الفكرية والسياسية للبلاط الفارسي. وقد أخذ هذا التقليد صورة نصائح تُقدم إلى الحاكم حول كيفية الحكم بما يحفظ السلطة ويعطي لها وجهاً أخلاقيّاً. ويعتبر كتاب (الآداب السلطانية) للماوردي المثال الكلاسيكي لهذا اللون من الكتابة، ولا يحتاج المرء خيالاً عظيماً ليدرك أن كتاب الأمير لمكيافيللي ينتمي إلى هذا التقليد أيضاً. وكان التقليد الثالث هو سياسة الفلاسفة أو السياسة المدنية (نسبةً إلى المدينة كنموذج للمجتمع السياسي)، وقد حاول الفلاسفة من خلال استلهام أو تكييف التقاليد الكلاسيكية لعلم السياسة أو الفلسفة السياسية لأفلاطون وأرسطو، من خلال الجمع بين آراء الحكيمين أن يصلوا إلى معرفة جوهر السياسة ومن ثم نظام الحكم الأمثل كمعيار لتحليل وتفسير وتقييم وتغيير الواقع السياسي. وقد بدأت هذه المحاولات مع الفارابي الذي أدخل علم السياسة الأفلاطوني إلى الحيز المعرفي الإسلامي ووصلت ذروتها مع ابن رشد الذي قدم في شرحه لجمهورية أفلاطون محاولة فكرية وسياسية لإصلاح واقعه السياسي في الأندلس في إطار الانقلاب على حاكمه المستبد.
على ضوء هذه الخلفية، يمكننا استعراض الاتجاهات السائدة في علم السياسة في مصر في اللحظة الراهنة مثلما تتبدى في قسم العلوم السياسية بجامعة القاهرة. ولا شك أن في هذه الرؤية التي نقدمها درجة كبيرة من المركزية، إذ إنها تعتبر أن كافة أقسام العلوم السياسية بالجامعات المصرية الأخرى إما أنها صور مستنسخة من القسم الأم أو لا ترقى إلى مستوى وجود اتجاهات نظرية للعلم بها ولا يعدو محصولها العلمي إن وجد، نوعًا من الإمبريقية الخام. وإذا كان الأمر كذلك، فيمكننا القول إن هناك ثلاثة اتجاهات نظرية في الحقل، أحدها رئيسي والآخران فرعيان وربما هامشيان. أما الاتجاه الأول فهو الاتجاه السلوكي الوضعي، والآخران هما الاتجاه المعرفي الإسلامي والتأويلي ما بعد الحداثي.
والاتجاه السلوكي الوضعي هو الاتجاه الرئيسي الغالب وهو يجسد نوعاً من السلطة المعرفية، أو لنقل الإمبريالية النظرية التي تحدد من خلال السلطة الإدارية في لجان مناقشة الرسائل أو السيمنار العلمي والترقيات، والسلطة المعرفية في تحديد مقررات التدريس والرسائل العلمية والأبحاث الدورية ما يدخل في نطاق العلم وما لا يدخل في نطاقه أي حدود الحقل، وكذلك الموضوعات الجديرة بالبحث والتدريس أي الأجندة العلمية. وقد استطاع هذا الاتجاه من خلال استيراد التقاليد العلمية للمدرسة السلوكية الأمريكية أن يؤسس علم السياسة في مصر بصورته التي نعرفها، إذ أنشأ التخصصات الرئيسية والفرعية من خلال الإشراف العلمي والتدريس والتأليف. غير أن هذا الاتجاه يعاني من نفس عيوب المدرسة السلوكية والاتجاه الفلسفي الوضعي بوجه عام، كما بينت الأحداث السياسية في العقديْن الماضييْن، رغم إنكار القائمين عليه ذلك. إن الوضعية التي يقوم عليها علم السياسة السلوكي تقوم على نظرة للعلم والكون مستلهمة من العلوم الطبيعية قد تجاوزتها في إطار نقلة براديمية Paradigmatic Shift تسببت فيها نظرية النسبية ونظرية الكوانتم؛ فقد سقطت الحتمية لتحل محلها الاحتمالية وتبدلت حدية الحقيقة لتحل محلها درجاتٌ للحقيقة. وهناك ثلاثة عيوب جوهرية في التقاليد السلوكية؛ أولها استناد فكرة العلمية إلى المنهج وحده الأمر الذي يؤدي إلى استبعاد موضوعات أو أبعاد هامة تؤثر في موضوع السلطة لمجرد أنها غير قابلة للدراسة بالمنهج المستورد من العلم الطبيعي. ويعمي هذا التقديس العلمي للوسيلة الباحث عن الواقع. يضاف إلى هذا إلى أن فكرة السلوك الظاهر كوحدة للتحليل تختزل الحقيقة الإنسانية إلى مجرد منبه واستجابة (كما هي حالة كلب بافلوف) ويستبعد العناصر القيمية والبنيوية من التحليل. أخيراً؛ لم تؤد فكرة الحياد القيمي التي شوهها تالكوت بارسونز بنقله إياها عن ماكس فيبر إلى استبعاد القيم من التحليل، وإنما فتحت الباب الخلفي أمام القيم لتتسرب مرة أخرى إلى التحليل دون دراستها عمليّاً، كما هو الحال في التقاليد العلمية الأرسطية في كتاب الأخلاق. وتحت ستار الموضوعية، يتمكن الباحث السلوكي من تهريب قيمه الخاصة للتحليل والزعم أن نتائجه تنبع من الواقع، في حين أنها تمثل تفضيلاته الفكرية والقيمية وقد تدثرت بعباءة السلطة الأكاديمية. وهكذا يهبط الباحث السلوكي بمكانة علم السياسة من معلم للمشرع والحاكم إلى مجرد كالكتّاب الفرس في البلاط العباسي.
أتى الاتجاه المعرفي الإسلامي كردة فعل على طغيان الاتجاه السلوكي تدريساً وبحثاً. وينبع هذا الاتجاه من إدراك أن للسياق الحضاري والتاريخي والمجتمعي أثره في صياغة المفاهيم الكلية التي يتأسس عليها العلم، أي علم نظري وعملي، وأن التقاليد الوضعية هي نتاج تطور فلسفي ارتبط بظروف المجتمع الصناعي الغربي العلماني، وهي وإن جرى تصديرها باعتبارها عالمية وتمثل أعلى ما توصل إليه الفكر الإنساني، غير أنها في حقيقتها لا تعدو إلا أن تكون مجرد تطور ثقافي وفكري غربي جرى فرضه على البلدان المستعمرة. ويبشر هذا الاتجاه بإحداث نقلة برادايمية تعيد تأسيس علم السياسة على أساس المفاهيم والخبرات التاريخية الإسلامية، فيما يعرف بإسلامية المعرفة أو المنظور الحضاري الإسلامي. ورغم وجود إنتاج معرفي حقيقي وأعمال تأسيسية لهذا الاتجاه إلا أنه يعاني من الحيرة بين التقاليد الإسلامية أي تقاليد المدرسة الشرعية وآداب النصيحة وتقاليد الفكر الغربي. وبرأينا المتواضع، فإن هذا الاتجاه يعاني من عدم تعمقه النظري في القضايا الأنطولوجية (المتعلقة بمفاهيم الوجود بشكل عام، والوجود الإنساني بشكل خاص) والابستيمولوجية (المتعلقة بمصادر المعرفة وحدودها وماهيتها ودرجاتها). ونتيجة ذلك، أن مع استخدام هذا الاتجاه للمفاهيم الإسلامية (القرآنية والتاريخية) كديباجات تحليلية، فإنه يعجز عن توظيفها على مستوى بناء المفاهيم ووحدات التحليل والاقترابات. ويتم الالتفاف على هذا القصور النظري باستيراد المفاهيم الغربية وهي التي يبشر هذا الاتجاه بإحداث قطيعة معها، مع تلبيسها بالمفاهيم الإسلامية، وذلك بنفس الروح الوضعية التي يرغب في منافحتها. ومآل هذا الاتجاه، إذا لم يتعمق في الخبرة الفلسفية هو الانحسار في شكل دراسات مناطق تتخذ من العالم الإسلامي أو الأمة الإسلامية كوحدة للتحليل وتركز على قضايا ومشكلات المسلمين على المستوى الدولي.
ويعتبر الاتجاه التأويلي ما بعد الحداثي متأخراً زمنيّاً على هذيْن الاتجاهيْن، ويأتي كرد فعل على تعثر مسيرتهما ويحاول هذا الاتجاه فتح طريق جديد أمام علم السياسة في الحيز المعرفي المصري من خلال استلهام تقاليد النقد الحداثية وما بعد الحداثية وتوظيفها في دراسة قضايا الواقع السياسي الفكري والحركي باستخدام اقترابات تحليل الخطاب والتفكيك وجينالوجيا السلطة، ورغم إدراك هذا الاتجاه أن النقد ما بعد الحداثي يستند إلى تقاليد فكرية تعود بجذورها إلى التراث اليوناني والروماني والمسيحي اليهودي والحداثي، وأنها نبعت في مجتمعات بلغت فيها معدلات التحديث مستويات عالية، بحيث تبدلت طبيعة المشكلات ومكونات الواقع السياسي والاجتماعي فيها عن الواقع المصري، رغم هذا كله، عجز هذا الاتجاه عن تكييف هذه التقاليد المستوردة بما يؤدي إلى إزالة التناقض بين مسلماتها الفلسفية والتقاليد الثقافية المحلية أو حتى إحداث إزاحة وتبدل دلالي في بنية تلك المفاهيم لتتناسب كأدوات للتحليل مع الواقع السياسي المستورد. ومن دون حل هذه الإشكاليات النظرية، سيكون مآل هذا الاتجاه (إن استمر) هو تقديم أبحاث تفكك الواقع وتسهم في تحلله، وهو واقع مهترئ ومتشظٍّ من الأساس، من دون أية قدرة على التجديد أو إعادة البناء.
ماذا بعد؟
إن هذه هي الأرضية التي يقف عليها الباحث في علم السياسة في اللحظة الراهنة، ولا يمكنه سواء علم أم لم يعلم، شاء أم أبى أن يتجاوز الواقع السياسي أو الأكاديمي أو القفز من فوقه عن طريق حرق المراحل التاريخية كما ذهب لذلك الماركسيون قديماً. ولا يعني هذا الاستسلام إلى ذلك الواقع. ولا يعني هذا بأي حال من الأحوال أيضاً الاستسلام لهذا الواقع أو الركون إليه، وإنما ضرورة البدء منه في أي مسعى نظري أو عملي سواء أكان المقصود هو الحفاظ عليه أو إصلاحه أو تغييره أو تطويره أو هدمه وإعادة بنائه.
إن الدعوة إلى التجديد في علم السياسة وفتح آفاق جديدة لهذا الحقل المعرفي في المستقبل، إنما هي دعوة دائمة لا تتوقف ولا تقتصر على جيل دون جيل، وإنما يشارك فيها الجميع كهم ورسالة مشتركين. ومن أجل ذلك، لا ينبغي أن تتلبس هذه الدعوة شكل التمرد الطفولي على منجزات الأجيال السابقة في الماضي القريب أو البعيد أو حتى السحيق؛ فإنما المقصد هو إعادة تدوير وتوظيف هذه الجهود واللبنات من أجل التجديد المستمر في بناء العلم وليس تحطيمه. ولا يحول هذا دون التخلص من العناصر الفكرية التي تحدث الجمود الفكري وتعرقل التغيير تحت أي زعم.
ولا يمكن لعلم السياسة أن ينفصل عن القاعدة القيمية تحت أي زعم؛ فلا بد أن تكون القيم والالتزام القيمي حاضراً وموجهاً للبحث في كل خطواته، ولكن تسانده في ذلك الأمانة العلمية والاستقامة المنهاجية التي تجعل من الشك المحرك لكل مسعى علمي إنما يتحرك في إطار حب الوصول إلى الحقيقة مهما بلغ العنت أو التضحية أو المشقة. ذلك لأن الفصل بين الحقيقة والقيم إنما يفقد الباحث الدافع والمحفز لمواصلة السير في الطريق الوعر والصخري للعلم، بتعبير ماركس، ويجعله أداة طيعة. ولهذا فإن علم السياسة الذي لا يستطيع أن يدين نظام الحكم الاستبدادي تماماً مثلما يصف علم الطب السرطان على أنه مرضٌ خبيثٌ، لا يستحق وصفه بالعلم، على حد قول ليو شتراوس ويمكن أن نضيف أن المشتغل بهذا اللون من العلم ليس بعالم.
أخيراً وليس آخراً، برغم ضرورة اقتراب باحث العلوم السياسية من الواقع ليجعل علاقته به علاقة مباشرة بلا حجاب من الوسائط المفاهيمية والفكرية، بل يستلهم قضاياه وتوجهه النظري ومنهجه من ذلك الواقع، إلا أنه لا يجب أن يخوض غمار العمل السياسي كأحد الفرقاء المتصارعين أو كرديف لأي من هؤلاء، لأن مهمته أسمى من ذلك بكثير. إن الفيلسوف السياسي لا يعني فقط بدراسة المسائل الجزئية للحكم، وإنما بالصورة الكلية للوجود السياسي وما ينبغي أن يكون عليه، فهو يقدم معايير الحكم على الأشياء في عالم الواقع، فيما يتصل بإشكالية السلطة. ولو استعدنا تصور أفلاطون لدور عالم السياسة، لجاز لنا أن نقول: إن عالم السياسة هو أسمى بكثير من هؤلاء المتنازعين على السلطة أو الممسكين بزمامها؛ لأنه معلمهم وهاديهم وليس خبيراً أجيراً لديهم.